قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((كل شيء بقدر حتى العجز والكيس))
أخرجه مسلم في صحيحه ومالك في الموطأ من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
عندما وقفت على هذا الحديث أصابني خوف شديد. إذ الأمر في لا يتعلق بالسنن الظاهرة والأفعال المشاهدة وإنما بعالم الإرادات والرغبات وغير ذلك من الأحوال المتصلة بالنيات ، والحديث إنما استفاد خطورته وجلالته من اتصاله بهذا الجانب. اللهم سلم سلم ، كل شيء بقدر حتى العجز والكيس ؟ حديث كهذا يحتاج إلى أمرين : الأول التسليم والإذعان ، فليس لنا من أمر الله مهرب ، فهو خالق أعمالنا (والله خلقكم وما تعملون) والأعمال نوعان : أعمال الجوارح وأعمال القلب. والأمر الثاني : شيء من التدبر والتأمل لهذا الحديث مع شيء من الشرح والإيضاح لتزول بعض الإشكالات المحتملة. فالأمر الأول يستوي فيه الجميع ، وهو مقدور لهم كلهم إن شاء الله ، أما الثاني فالتفاوت وارد جداً ، ففينا المستشكل المستفهم ، وفينا العارف بمعناه ووجه الصواب فيه ، وربما وجد من أساء فهمه واختل بنيان العقيدة عنده.
دعوة لمدارسة هذا الحديث والتعليق بما يعود على الموضوع بالفائدة.
ولعلي أطرح إشكالاً: مالمراد بـ "العجز" هنا : أهو
(الضعف ) أو (نقيض الحزم) [معجم مقاييس اللغة 4 : 232 / الصحاح 2 : 749 / القاموس المحيط : 515]
(عدم القدرة) قال القاضي عياض : ويحتمل أن العجز هنا على ظاهره ، وهو عدم القدرة [شرح النووي على مسلم : 16 : 420-421].
(ترك ما يجب فعله ، والتسويف به ، وتأخيره عن وقته) [شرح النووي على مسلم : 16 : 421].
(العجز عن الطاعات أم يحتمل العموم في أمور الدنيا والآخرة) [شرح النووي : 16 : 421].
قال ابن عبدالبر في التمهيد (14/ 386) : وفي هذا الحديث أدل الدلائل وأوضحها على أن الشر والخير كل من عند الله ، وهو خالقهما لا شريك له ، ولا إله غيره ، لأن العجز شر ، ولو كان خيراً ، ما استعاذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت : وفي الحديث مقابلة العجز بالكيس ، فهل لذلك فائدة من جهة بيان معنى أحدهما بذكر ما يضاده ؟ إذاً فما هو الكيس ، أهو :
(النشاط والحذق بالأمور) [شرح النووي على مسلم : 16 : 421]
(خلاف الخرق) [معجم مقاييس اللغة ، 4 : 149] ، وفي الحديث ((...تعين صانعاً أو تصنع لأخرق)).
(العقل و خلاف الحمق) [القاموس المحيط ، : 571]
أعود إلى "العجز" ، أيمكن أن يشتمل على المعنى الذي يذكره الأصوليون ، وله ما يؤيده من بعض الدلالات القرآنية ، وذلك في كلامهم عن "تكليف العاجز" ، مبحث التكليف بما لا يطاق : جائز أم غير جائز ، [انظر : البحر المحيط للزركشي: 312 -313].
والإجماع منعقد على أن من عجز عجزاً حقيقياً عن الإتيان بالطاعة على وجهها فمعذور لا إثم عليه ، ولكن اختلفوا : هل هو مكلف حكماً أم حقيقة ، فيه بحث. ويمكن القول هنا: الإشكال في هذا المعنى للعجز قليل أو معدوم لأن الإجماع منقول بشأنه والنصوص الصريحة واردة بذلك (ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به) قال تعالى : قد فعلت ، وقال (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) ، وقال صلى الله عليه وسلم (صل قائماً فإن لم تستطع فصل قاعداً) أو كما قال. وفي القاعدة الفقهية : لا وجوب مع العجز ، قال في بدائع الصنائع : ((وإذا كان عاجزا عن المشي لا يلزمه شيء ; لأنه لم يترك الواجب إذ لا وجوب مع العجز)).
ومعلوم أن العجز بهذا المعنى لا يصلح أن يكون داخلاً في معنى العجز الذي استعاذ منه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبناء عليه اعتبر أبو عمر ابن عبد البر العجز شراَ لا خير فيه ، بل من العجز ما لا شر فيه وهو هذا الذي ذكرت لأنه ليس من كسب العبد وليس لأحد يد فيه ، وهو العجز الكائن بسبب عدم القدرة حقيقة ، ولذلك جعل الله الرخصة في مقابل المشقة في الإتيان بالعزيمة فما بالك بالعجز عن ذلك ؟ اللهم إلا أن يكون مراد حافظ المغرب عدم نفي الجنس وإنما نفي نوع هو العجز المقدور للعبد ، الذي يملك به تعجيز نفسه بإتيان الأسباب الموجبة لذلك من غفلة و تهاون وتراخ ونحوه ، وهو الأظهر.
...الموضوع مهم من وجهة نظري ومتشعب فهو متعلق بالعقيدة والفقه ، وقد سقت الحديث وأثرت بعض القضايا وتركت التعليق مع وجود الأفكار الكثيرة رغبة في طرحها شيئاً فشيئاً مع نقاش الإخوة.
ومن أهم ما يحتاج إلى بحث فيما أرى هو: كيف يلتقي هذا الحديث مع سائر النصوص لأن في الحديث إشارة واضحة إلى تقدير الإرادات الدوافع والمحفزات النفسية التي تجعل العبد بين إقبال وإدبار في أمور دنياه ، والأخطر في أمور دينه. ربما لا جديد في هذا لاشتهار نصوص بنفس المعنى (القلب بين أصبعين من أصابع الرحمن) الحديث. ولكن هل تقدير الأعمال القلبية والإرادات حاصل بمشاركة تسبب من العبد (وما كان الله ليضل قوم بعد إذ هداهم حتى يبين لهم يتقون) أم أنه اختيار إلهي محض (وربك يخلق ما يشاء ويختار) [1].
اللهم اهدنا فيمن هديت يا أرحم الراحمين